أكتوبر 19، 2012

فى قبضة الحب



فى قبضة رجال الشرطة 

دخل عادل حجرة النوم فى خطوات هادئة لم يعتدها من قبل ؛ وأغلق الباب لكنه عوض أن يُلقى بجسدة المنهك على السرير؛ ارتمى على الأرض ؛واسند برأسه على الكرسى؛ وهنا سبحت أفكاره يميناً ويساراً. تجلى أمامه الماضى البعيد والماضى القريب كما الحاضر أيضا . كان يناجى نفسة تارة بصوت مسموع ؛ وأخرى إذ يدرك  أنه فى بيت غريب يصمت ليناجى نفسة سراً:
  لقد عشت يا عادل كل حياتك محروماً من الحب؛ لاتذكر حتى فى طفولتك أن أمك قد احتضنتك يوماً ما ؛ ولا أباك كان يترفق بك ؛ ولا اخواتك يهتمون بك.
عشت لا تعرف العاطفة؛ ولا تذوقت الدفء العائلى . بدأت حياتك الدراسية طفلاً مشاكساً؛ لاتعرف الرقة في التعامل ولا احترام الأخرين؛ تريد أن تنتقم من كل إنسان وتشاغب مع كل  أحد. وكان نصيبك النبذ من المدرسين والطلبة. لم يعرف أحد أن يدخل قلبك ويروى عطشك أو يُضمد جراحاتك الخفية ؛ أما أنت فلا تعرف لغة القلب .
 كان نصيبك الفشل المستمر ؛ فصرت من جماعة المشاغبين ؛ وانتهى امرك بالطرد من المدرسة . قسا الزمان عليك ؛فقسوت على الناس ؛ وصار العنف يسرى فى دمك . تعلمت ان تغتصب كل ما تقدر ان تمتد إليه يديك ؛ فصرت مُحترفا السرقة . واخيراً انتهت حياتك بالسجن  لتعيش حياتك منبوذاً من الجميع ؛ محروماً من اثمن ما فى الوجود : الحرية ! والأٌن ها أنت فى .. فيلا جميلة ؛ أصحابها أغنياء ؛ أغنياء بالأكثر فى الحب! لعلها لأول مرة  ترى  فيها  أناساً يبتسمون فى وجهك ويهتمون بك ولا يحتقرونك  . لماذا يُحبونك؟ وماذا يرجون فيك أو منك ؟! هكذا لم يدرِ  كم من الوقت قد قضاة سابحاً فى أفكاره ؛ يذكر لمسات الحنان التى قدمتها لة السيدة العجوز والملابس الجديدة التى قدمها له  ابناها . لكنه تحت ضغط الإرهاق الجسدى الشديد اغمض عادل عينيه ليغُط فى نوم عميق وهو ملقى على الأرض بلا حراك .
 فجاة ؛ فتح عادل عينية على قرعات الباب الهادئة ؛ وبدأ يفكر بسرعة خاطفة أين هو ؟ وما الذى جاء به إلى هذة الحجرة الجميلة بأثاثها الفاخر . لكنه تدارك الأمر أنه فى استضافة عائلة مُحبة تلقفته بعد أن قضى زمانا فى السجن . فتح عادل الباب ليجد أحد الشابين يعتذر له إن كان قد أيقظه من النوم بقرعات الباب:-       

  آسف جداً يا أخ عادل . فإنى ما كنت أحسبك نائماً  .
 خشيت أن تكون فى خجل من  أن تأتى وتجلس معنا. 

شكرا يا أخى على محبتك ؛ فقد كنت محتاجاً فعلاً أن أنام كل هذة الفترة الطويلة .

 -  إذن ؛ فلتتفضل معنا العشاء لتعود وتُكمل راحتك .
 ذهب عادل إلى الحمام  وغسل وجهه بسرعة ؛ ثم جلس مع الأم العجوز وابنيها على المائدة . بعد صلاة قصيرة بدأوا يأكلون وهم يتجاذبون  أطراف الحديث. 

-   نرجو أن تكون قد اخدت قسطاً  وافراً  من الراحة .
 -  اشكر الله ؛ فإنى أشعر براحة خاصة وأنا فى وسطكم .
 -  يسرنا جداً أن تعيش معنا ؛ فالمكان متسع ؛ وبركات الرب كثيرة !
 -  أنا لا استحق هذة المحبة ؛ ولا استحق أن أعيش  بين قديسين مثلكم ؛ فإنى إنسان شرير . قضيت عمرى فى الخطية والشر .
 -         لا تقل هذا يا عزيزى ؛ فنحن جميعًا تحت الضعف .ولكل منا خطاياة ؛ لكن الرب يستر علينا برحمته .
 -  لا.....لاتقل هذا . لعلك لا تعرف ما انا عليه ..... فقد امتنزجت  طبيعتى  بالشر ؛ وكأنى والشر صرنا واحداً .
  لا تخف ؛ فإن الله الذى خلقنا قدم حياته من أجلنا . أنه يحبنا ؛ نزل إلينا ؛ وصار مثلنا كواحد منا ؛ ودفع حياته ثمناً لخلاصنا .
 لعلة يُخلص آخرين غيري ........
  لا .... بل يريدك  أنت . أنه  يحب كل إنسان ويشتهى خلاص  كل  أحد .
 -  ألم أقل لكم  أنتم  لا تعرفوننى . لقد قضيت حياتى كلها فى الشر ؛ لقد امتزجت حياتى بكل اصاف الخطية  ؛ وما أظن  إنى اقدر أن اتخلص منها !
 -         الله الذى يحب الخطاة هو يقدر أن يعين الجميع . لقد غير حياة الزنا والعشارين ودخل بيهم إلى الفردوس .

 -   إذ انتهوا من العشاء غسلوا ايديهم ؛ ونزلوا معاً إلى الحديقة يُكلمون الحديث عن محبة الله اللانهائية . حتى انسابت  دموع عادل بغزارة ووقف الكل يصلون . 

 بعد فترة ليست بطويلة ارادت العائلة أن ترحب بالضيف أكثر فأكثر  ,
 فسالوة  إن كان يأخذ  فكرة عن الفيلا ومحتوياتها  . فأجاب بالايجاب وبدءوا يسيرون معه من حجرة إلى حجرة ؛  يكشفون له عن اسرار البيت كله . واخيراً استقرت وقفتهم أمام قطعة أثرية جميلة وُضعت على البيانو .
 -  إنها قطعة جميلة .
 -   نعم ، واثرية أيضاً  ؛ (أجابت العجوز) .
 -   وما ثمنها  .
 -  إنها تساوى خمسة آلاف جنيهاً مصرياً  . لكنها فى نظرنا أثمن من ذلك بكثير ؛ أنها لا تقدر بثمن  . فهى تحمل  ذكرى والدى واجدادى الذين توارثنا عنهم .
 بعد أن أخذ عادل فكرة عن البيت ومحتوياته ؛ دخل الجميع الحجرة المخصصة للصلاة العائلية ؛ وأمام أيقونة السيد المسيح صلى الكل ؛ وذهب كل منهم إلى حجرة نومه . وضع عادل راسه على الوسادة وحاول أن ينام لكنه لم يستطع إذ بدأت الأفكار تتراقص فى ذهنه . كيف تفلت . هذة القطعة الأثرية من يدى ؟ لكن كيف اخون الذين احبونى  من كل القلب ؟ وهل أعيش عالة عليهم كل أيام حياتى ؟ لأعيش عالة ولا أسرق؛ فقد وعدتهم ألا أعود إلى الخطية مرة أخرى . ما قيمة قطعة أثرية فى أيدى أناس أغنياء ؛ هم ليسوا فى حاجة إليها . لأسرقها وأبيعها كى أجد عملاً تجارياً شريفاً ؛ فلا أعود أنحرف بعدها ! فى وسط الصراع العنيف قام عادل وتسلل وسط الظلام على أطراف أصباعة حتى بلغ إلى الصالة ؛ وهناك وقف أمام القطعة متردداً . مدّ  يده ليمسكها ؛ ثم عاد فتراجع ؛ وتكرر الأمر مرة ومرات؛ وأخيراً تشدد وامسك بالقطعة  وتسلل نحو الحديقة ليجد الباب الحديدى مغلقا . لن هذا لا يشكل مشكلة ؛ فبسرعة البرق قفز من  السور إلى الشارع  ليجد نفسة أمام رجلين من الشرطة ؛ أمسكا به .  ارتبك عادل جداً ؛ ولم يعرف ماذا يفعل . لقد فتشه الرجلان ووجدا معه القطعة الأثرية فاخداها منه واقتاداه إلى دار الشرطة.

فى دار الشرطة     

ايقظت العجوز أحد ولديها على أثر قرعات غريبة على الباب بعد منتصف الليل ؛ وكانت المفاجأة أن فتح الشاب ليجد أمامه رجلين من الشرطة : -         لاتقلق ؛ فقد امسكنا رجلاً يقفز من سور حديقتكم ومعه بعض المسروقات ؛ فأتينا نخبركم .
  اشكركما تفضلا .
 -    ضابط البوليس ينتظرنا ؛ ويطلب رب البيت  أن يحضر ليتعرف على المسروقات .
 -  حالاً أحضر معكما .
 -   سمعت الأم العجوز الحديث ؛ فادركت أن عادل هو المقصود.  للحال أسرعت نحو حجرته لتجد الباب مفتوحا ؛ وإذا دخلت لم تجده . عندئذ خرجت وأصرت أن تذهب مع ابنها إلى دار الشرطة . وعبثا حاول ابنها أن يثنيها عن عزمها .
 -  انطلق الشاب بعربته ومعه والدته العجوز ورجلىّ الشرطة ؛ وهناك إذ دخل الكل حجرة الضابط؛  سلمت الام على عادل سلاماً حاراً ؛ إما هو فقد نكس رأسه ولم يقدر أن يرفع عينيه ويتطلع إليها . تعجب الضابط من المنظر .
  اتعريفنه يا سيدتى ؟
 -   نعم أعرفة جيداً ؛ أنه صديقنا الحميم !
  لقد وجدناه  يقفز من سور حديقتكم .
 إنه صديقنا  والبيت هو بيته .
 -  وجدنا معه قطعة أثرية ثمينة .
 -  أنا أعطيته إياها لكى يعالج عيبًا فيها .
 -  ألا تتهمي بالسرقة .
 -   مستحيل .
  إذن نتركه على مسئوليتكم !
 لا، بل سناخذه معنا يبيت اليلة عندنا .
 لم يتحمل عادل هذه المحاورة فقد شعر كأنه  وقد افلت من يد الشرطة صار أسير حب فريد لم يذقه من قبل . وهنا تسللت  الدموع من عينيه وهو جامد الحركة لا يعرف ماذا يقول ولا يتصرف ؛ عندئذ تقدم الشاب فى محبة ؛ وامسك بيده؛ واقتاده الى السيارة ليذهب معهما إلى الفيلا .
 عند باب السيارة ثقلت قدمى عادل جداً وانهمرت دمعومة بكثرة وهو يقبل يدى الأم العجوز ؛ قائلا :
 
"سامحينى فقد أسأت لليد التى أحسنت إلىّ " .

 لا تقل هذا يا عادل ؛ فإن الله يغفر لنا كل يوم .
 اشكرك ؛ لكننى لا أقدر  أن أعيش  أسير هذا الحب  . إنى لا استحق حبكم ولا أستطيع أن أقف وسطكم .
 -  إن كنت قد حكمت علينا أننا نحبك فأسمح أن تقضى بقية الليلة معنا .
 لا أحتمل يا أمى ؛ فإن ناراً تلتهب داخلى !
 -  لاتقل هكذا يا عادل ؛ اسمح أن نعود جميعاً فرحين .
 تحت لجاجة الأم العجوز ركب عادل معهما حتى وصلا الفيلا . وهناك نزل من السيارة  ليقف على الرصيف  وعيناه قد تسمرتا متجهتين نحو المكان الذى قفز منه .  ربتت الأم على كتف ودخل الكل إلى الفيلا ؛ حيث تسلل عادل إلى حجرته ليقضى بقية الليلة يجهش فى البكاء ؛ وفى الصباح الباكر بعد أن صلى مع العائلة وأخذ افطاره استاذنهم وخرج بلا عودة !
 مع الراهب دانيال
 مرت السنوات وأصيبت الأم  بمرض الفالج (الشلل) الذى أفقدها قدرتها على الحركة ؛ فصارت حبيسة بيتها مع ابنيها الرجلين اللذين يبذلان كل الجهد فى خدمة الكنيسة .
 كان الابنان  يلتقيان كل مساء مع امهما ليشترك الكل معاً فى الصلاة العائلية ؛ وبعد دراسة فى
 الكتاب المقدس  يسير الولدان بامهما إلى أحدى الشرفات على عجلة ؛ خاصة بها ؛ ويقضون وقتا ليس بقليل يتحدثون في  سير القديسين السابقين ؛ وما يدور حول شخص  الراهب  دانيال . فقد فاحت سيرتة المقدسة فى كل
 أنحاء القطر ؛ وتحول الدير إلى مزار يفد إليه الناس من كل صوب يلتمسون بركة القديس ؛ الأمر الذى دفع بالراهب دانيال أن يترك الدير ويهرب إلى مغارة على بعد عدة أميال من الدير .
 فى إحدى الليالى ؛ قالت الأم لولديها : "اذهبا إلى أبينا دانيال ليبارككما ؛ واطلبا منه ان يصلى عنى ."
  ولماذا لا تأتى معنا يا أماه ؟
 أنت تعلم يا ابنى إنى عاجزة عن الحركة ؛ ولا أريد أن أثقل عليكما . يكفينى أن تنالا أنتما البركة .
 لا ..... بل إن أردتِ فلتذهبى معنا ليصلى عنك فيهبك الرب الشفاء .
 -  أنا لا أطلب  شفاءً للجسد بل أشتاق إلى إن أكمل أيامى فى رضى الرب واعبر سريعاً.
 -  لا تقولى هذا يا أمى فنحن محتاجون بركتك معنا .
 -  لقد اكملت رسالتى يا ابنى ........إنى اشتهى أن أنطلق واكون مع  السيد المسيح ؛ وذلك افضل جداً .
 أصر الابناء أن يأخذا امهما معهما وقرر الكل أن تكون الرحلة فى اليوم التالى . وبالفعل فى الصباح المبكر جداً سار الابنان بأمهما إلى السيارة ؛ وحملاها إلى المقعد الخلفى  لتستريح ؛ وانطلق الكل نحو البرية إلى الدير .
 لم يكن من السهل أن ينزلا بأمهما من السيارة ويحملانها على العجلة ليدخلا بها إلى كنيسة الدير . فى الطريق إلى الكنيسة قالت الأم فى ألم : "ارجو أن تتركانى فى الدير هنا وتذهبان أنتما إلى المغارة ؛ فان السيارة لا تقدر أن تصل إلى المغارة ؛ أظن أن العجلة لا تقدر أن تسير فى الرمال . يكفينى أن تذهبا و تطلبان منه ان يصلى عنى .
 وأنا أنتظركما هنا حتى آخر اليوم  .
  - لاتخافى يا أمى ؛ فإن الله سيدبر الأمر ؛ نحن قد أتينا من أجلك  وسنسأل أن كان بالدير (جيب ) تقدر أن تصل بنا الى المغارة .
 لا تتعبان ؛ ولا تحرجا أنفسكما مع الأباء الرهبان .
 -  لقد علمتينا اننا بالإيمان لا يوجد مستحيل .
 هنا بلغ الكل باب الكنيسة ؛ حيث خلع الكل أحذيتهم ودخلوا فى مخافة وهدوء إلى الهيكل حيث سجد الابنان إلى الأرض وصليا . أما الأم فقد انذرفت دموعها وهى تصلى بكلمات غير مسموعة . وبعد أن قبل الكل أجساد القديسين خرجوا يسألون عن الراهب دانيال .
 سال أحد الابنين راهباً: كيف يمكننا الذهاب إلى المغارة ابينا دانيال؟ 

هل تريدون أبانا دانيال ؟
 -لو سمحت ؛ فإننا مشتاقون أن ننال بركته ؛ وأمى كما تراها مريضة بالفالج .
 على أى الأحوال ؛ أن تدبير الله حسن ؛ فإن الاب دانيال حالياً فى الدير .
 أشار الراهب إلى الموضع الذى يجلس فيه أبونا دانيال ؛ الذى تفرس فيهم كثيراً وهم قادمين . واذ وصلوا اليه مع الراهب سألوا : أبانا دانيال ؟
 اجاب الراهب فى هدوء : نعم أنت .......أنت بولس ؟ 

-  كيف عرفتنى ؟
 وانت بطرس.؟
 -  نعم ......اتعرفنى ؟
 هل هذه أمكما ؟
 نعم !
 وفى لحظات ضرب الراهب دانيال مطانية أمامهم ثم أخذ الابنين بالأحضان وصار يقبلهما ؛ ثم تقدم إلى الأم وصار يقبل يديها وهو يبكى .
 وقف الكل فى دهشة ؛ بل وتجمع عدد ليس بقليل من الرهبان يرون هذا المنظر الغريب . أخذ الراهب يقول للأم العجوز : ألا تعرفينى ؟! أنا ابنك عادل ؛ الذى احتملتم ضعفه وأسرتموه بالحب حين سرق القطعة الأثرية ...أنا عادل الذى كنت لصاً ؛ وعلى أيديكم عرفت مسيحى ! إنى مدين لكم بكل حياتى فى المسيح يسوع !  ثم ركع الراهب دانيال بجوار العجلة وصلى فى اتضاع  وانسحاق بدموع غزيرة ورشم الأم  بالزيت باسم الله القدوس الآب والابن والروح القدس ؛ فتحركت الأعضاء اليابسة ؛ وقامت
 العجوز عن العجلة لتمسك بيديها الأب دانيال وهى تسبح الله وتمجدة .     

هذة القصة رواها لى قداسة القس اثناسيوس بطرس وطلب منى تسجيلها فى أسلوب قصصى ...وإن كنت قد قمت بتغيير بعض احداثها.
 
قصص قصيرة لأبونا تادرس يعقوب ملطى – قصة رقم 185

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق