نشأت هذه الإبنة بين اخوة كثيرين وأب مريض وأم غير قادرة على العمل، فكان لزاماً عليها أن تعمل من سن
الرابعة عشرة لتنفق على أسرتها، واضطرت أن تعمل أياماً كثيرة في بيوت مختلفة لتجد الدواء وضروريات الحياة لأسرتها، وفي نفس الوقت واصلت تعليمها فكانت متفوقة في دراستها بمعونة الله الذي أحبته من كل قلبها.
مرت السنوات والتحقت بالجامعة، وكانت تجمع بين أعلى الكليات وأحقر الأعمال، وكانت مرتبطة بالكنيسة وأسرارها المقدسة واجتماعاتها الروحية. وتميزت بعفة النفس فما أكثر المرات التي حاول أبوها الروحي مساعدتها في معيشتها وكانت ترفض، وبعد الحاح كثير قبلت أن تأخذ ثمن الكتب الجامعية، ومن فرط حبها للكنيسة وحتى لا تأخذ إلا أقل مبلغ من الكاهن كانت تشتري القديمة لأنها أرخص.
ونظراً لصغر مساحة الكنيسة عن استيعاب الأعداد التي تخدمها قررت شراء قطعة أرض مجاورة لها، وأعلن أحد الكهنة في اجتماع للشباب بالكنيسة عن أهمية الإشتراك في هذا المشروع الذي تحتاجه الكنيسة بشدة.
ثم يحكي هذا الكاهن بنفسه عما حدث بعد نهاية الاجتماع : تقدمت بكل حياء هذه الشابة مني وهمست ممكن كلمة يا أبونا بعيد عن الناس ؟!
- ممكن طبعاً .. أجبت وانتحيت جانباً
- أبي قد سمعت ما كنت تعلن عنه .. وأريد أن أقدم شيء للمسيح ولكنى .. لم أدعها تكمل . . .
- يكفي يابنتي شعورك .. وربنا عارف ومقدر ..
- لو سمحت يا أبي عايزة أكمل كلامي ..
أنا صحيح فقيرة ولا أملك شيء .. ولكن لازم يكون لي دور .. ولو بأي شيء بسيط.
وبسرعة امتدت أصابع يدها اليمنى لتمسك بشيء في أصابع يدها الأخرى وأخرجت ما يشبه الدبلة وقدمتها لي ...
- أنه محبس ذهبي يا أبي .. حوالي أقل أو يساوي جراماً من الذهب ، بالتقريب قيمته خمسة وعشرون جنيهاً ... وهي قطعة الذهب الوحيدة التي أمتلكها طوال حياتي ولكن الأرض والكنيسة أهم . .
مرت ثواني قليلة كنت خافضاً فيها رأسي لأسفل ودون قصد مني لمحت حذائها المشقق والذي لا يستر كل قدميها ... ورفعت رأسي لأقول: "يابنتي خلي المحبس معك، واجب علينا نجيبلك أكثر منه ولا نأخذه منك"
- يا أبي دي حاجة وتلك أخرى .. ولا تحرجنى أرجوك أنا أريد أن أقدم شيء للمسيح وليس لك وأعتقد - سامحني - ان لو المسيح موجود كان قبلها من يدي ونظرت إلىَّ نظرة رجاء أن أستجيب لمطلبها . . .
لازال ترددي واضحاً وإن لم أنطق بكلمات قليلة أو كثيرة ... فبادرتني: "يا أبي أنت بهذا تحرجني وكأن الفقير ليس له نصيباً في العطاء . . وقبل أن تكمل شعرت بتأثرها البالغ ففتحت يدي متلقياً القطعة الثمينة جداً ليس في قيمتها المادية ، ولكن فيما تحويه وتحمله من حب ، لقد كان الإجتماع به أكثر من مائة فتاة . . . وكانت هي أفقرهم . . . ولكن أمام المسيح هي أغناهم.
قبضت على هذه القطعة بيدي وأنا أردد داخلي ببركة هذه الفتاة وببركة ذات الفلسين، سنحصل على هذه الأرض مهما كان ثمنها ... وتعلمت درساً في العطاء .. لن أنساه ما حييت ولكن أنظر يا صديقى إلى المسيح وما يرد به
فقد تخرجت هذه الفتاة وعملت بإجتهاد .. وتقدم لها شاب زميل لها في العمل وواجهته بكل ظروفها بما فيها الحجرة الواحدة التي تسكنها مع أهلها ولكنه احترمها وكافئها الله بشقة تكاد تكون قصة الحصول عليها معجزة في عالم لا يعترف إلا بالأرقام
نعم فإن عمل المحبة لا يسقط أبداً أمام الله ...
وأما أنا فلازلت أؤمن أن ما صنعته هذه الفتاة الرقيقة الحال كان أعظم تقدمة في الثماني ملايين جنيهاً . .!! ألم تعط كل ما ملكت .. فمن مناصنع ذلك؟
ثق يا أخي أن أقل شيء تقدمه لله له قيمة كبيرة أمامه، مهما كان ضعفك أو ظروفك الصعبة. فالله ينظر إلى قلبك، فجهدك القليل ومحبتك وحنانك وسهرك في الصلوات مهما كان ضئيلاً فهو غالي القيمة . ان دمعة واحدة من عينيك التائبتين يحفظها الله بكل تقدير عنده ، فلا تحتقر عطاياك الصغيرة لأن الهك أب حنون يحبك جدا بل ويرفعك فوق الكل بحسب قلبك المحب.