قال القديس يوحنا فم الذهب مقارنا بين من يهتم بالسماء معتبرا الأرض دار غربة ومن يقصر كل همه على هذا العالم " انهما يشبهان تاجرين سافرا الى بعض الآقاليم لابتياع التجارات وحين بلغا سالمين وطلعا الى المدينة افترقا فمضى كل واحد منهما الى غايته .
أما أحدهما فانه شمر عن ساعده العزم وقام على قدم الاجتهاد وأخذ يجول الآسواق و أماكن المتاجر و يسأل السماسرة وأهل الخبرة بتلك البلاد عن البضائع النافعة و المتاجر الرابحة و يجتهد فى الابتياع ليلا و نهارا و لا ينظر الى لذة و لا شهوة الى أن أكمل ما يحتاج اليه ثم استراح أخيرا .
أما الآخر فانه عندما طلع الى المدينة أخذ يسأل أهلها عما بها من البساتين و الحمامات و محلات الخمر و أماكن اجتماع المضحكين والحسان من النساء و مازال يقضى الأوقات هكذا ساعة فى الحمام وساعة فى البستان وساعة يأكل و يشرب وساعة يضحك المخايلين وكلما رأى رفيقه مجتهدا محصلا لآصناف البضائع يخاطبه معنفا على الانهماك فى التعب والاعراض عن الملذات و هو لا يلتفت اليه الى حين انقضاء الأجل المفروض للتجار وضرب البوق بالرحيل و أقبل رجال المملكة و حراس المدينة على اخراج الغرباء من مدينتهم كالعرف المعتاد عندهم .
أما ذاك التاجر الحازم اللبيب فانه عندما سمع صوت أبواق السفر نهض فرحا مسرورا لسرعة العودة الى الآوطان بما حصله من أصناف البضائع النفيسة ، و للوقت حزم المتاجر وسار سالما غانما ، و أما ذلك العاجز الخائب فانه عندما سمع صوت الرحيل و بلغ اليه الأجناد المخرجون الغرباء من مدينتهم تيقظ من غفلات الجهل و نوم الكسل و أقبل على ذاته بالبكاء والندم و الأسف و العويل و هو يسترحم فلا يجد راحما ويستعطف فلا يجد متعطفا حيث أصبح بين التجار فقيرا خائبا اذ لا مال و لا جمال ولا زاد و لا متاجر وهو مستقبل البرارى المخوفة والطرقات الهائلة و خليق بمثل هذا أن يموت خوفا ويهلك جوعا وهلعا .
لو كان لك أن تدوم فى هذه الحياة لجاز لك أن تقتنى فيها دورا ومالا وتذخر الخيرات الوافرة الجزيلة ولكن كل ما تقتنيه ههنا ليس هو من نصيبك لأنه قريب ذلك الوقت الذى تخلفه فيه لسواك .
قال المرتل " من الناس بيدك يارب من أهل الدنيا . نصيبهم فى حياتهم . بذخائرك تملأ بطونهم . يشبعون أولادا و يتركون فضالتهم لأطفالهم . أما أنا أنظر وجهك ، أشبع اذا استيقظت بشبهك " ( مز 17 : 14 ، 15 ) .
(عن كتاب طريق السماء للقس منسى يوحنا )